ولد فرانسوا ماري ارويه ,فهذا اسم فولتير الأصلي لأسرة متوسطة في عام 1694م ومات في عام 1778م قبل الثورة الفرنسة بعام واحد عن اربع وثمانين سنة,وكان ابوه من رجال القانون يعمل موثقا للعقود,فأراد والده أن ينشأ هذه النشأة القانونية ,ولكن فرانسوا المحب للآداب اختطّ لنفسه خطة أخرى فسعى بذكائه البرّاق حتى لمع نجمه في الأوساط الارستقراطية حيث عرف بنقده الساخر للبلاط ولرجالات فرنسا.
وقد قام الدكتور لويس عوض بدراسة موسعة حول فولتير ومذهبه الفلسفي منذ عقود خلت,,,
اقترن اسم فولتير بالدعوة الى التسامح أكثر مما اقترن اسم غيره من المفكرين ,وهو صاحب القول المشهور :(اني أخالفك رأيك ولكني أدافع حتى الموت عن حقك في ابدائه).
والتسامح عند فولتير مقترن بحرية العقيدة وبحرية التعبير معا.
وقد شغله التنديد بالتعصب والدعوة الى التسامح فكتب :"رسالة في التسامح" يحمل فيها على اضطهاد الانسان للانسان بسبب عقيدته او رأيه ,ويوضح منافاة التعصب بجوهر الديانات ,وفي "القاموس الفلسفي" , "1751ـ 1763 " يعرف فولتير التسامح على الوجه الآتي :
( التسامح ..ماهو التسامح ؟ انه ثمرة انسانية .اننا جميعا مجبولون على الضعف والخطأ فليغفر كل منّا حماقة أخيه ,وهذا أول قانون من قوانين الطبيعة (ومن الواضح ان الفرد الذي يضطهد فردا آخر هو أخوه في الانسانية لأن له رأيا يخالف رأيه , هو وحش .وهذا لعسر في ادراكه.فما بالك بالحكومة وبالقضاة وبالامراء الذين ينكلون بمن لايدينون بدينهم ).
وهو في :"رسالة في التسامح" يؤكد ان التسامح له جذور في القانون الطبيعي وفي الحق الطبيعي ,وأن التعصب منافي لهما .وهو في هذا يقول ,(القانون الطبيعي هو ذلك القانون الذي تعلمه الطبيعة للانسان ,فأنت تربي ولدا ,فهو مدين لك بالاحترام بوصفك أباه ,وهو مدين لك بعرفان الجميل بوصفك المحسن اليه .وانت تزرع الأرض بيديك وهذا يعطيك الحق في ثمرات هذه الأرض .وانت تقطع وعدا او يقطع الغير لك وعدا ,ولابدّ من الوفاء بالوعد (وفي كل حالة ,يستند القانون الانساني على القانون الطبيعي .وفي كل مكان على وجه الأرض نجد أن أسس القانونيين جميعا هو : عامل الآخرين بما تحب أن يعاملوك به.وتطبيقا لهذا المبدأ لايمكن لرجل أن يقول لرجل آخر : اعتقد عقيدتي وآمن بما لايطيقه ايمانك والا كان جزاؤك الموت .هذا مايقوله الناس في اسبانيا والبرتغال .وفي بلاد أخرى يكتفي الناس بقولهم آمن والا أبغضتك ,آمن والا انزلت بك كل مااستطيع من ضرر . أيها الوحش ,أنت لاتدين بديني ولذا فأنت مجرد من الدين ,وهذا يجعلك وباء بين جيرانك وفي مدينتك وفي بلادك (ان حق التعصب حق همجي ومناف للعقل .انه حق النمر ,بل هو أفظع من ذلك بكثير ,فالنمور تفترس لتأكل أما نحن البشر فيمزق بعضنا بعضا من أجل السلب......).
ويعود فولتير الى وصف التعصب الديني في أسلوب يفيض بالشاعرية الساخرة ,موضحا أن وراء كل تعصب ديني عملية من عمليات النهب الاقتصادي .
فيروي أسطورة صغيرة يقول بها :
(انه في ليلة من الليالي استغرق في الـتأملات فقد سحره جمال الطبيعة وانسجام أفلاكها اللامحدودة ,وهو شعور لاتعرفه الدهماء ).
وكان أعظم مااثار اعجابه الذكاء الكامن وراء هذه القوى العجيبة يديرها ويسيرها.
فتقول نفسه : (ان من لايروعه هذا المشهد لاريب أعمى ,ومن لا يتبين خالقه لا شك غبي ,ومن لايعبده لامحالة مجنون. ولو ان انسانا كان يسكن المجرة فهلا يسبح بحمده كما يسبح سكان هذه الارض ؟ان النور في الشعرى هو النور في هذه الارض وفي كل مكان ,وقياسا على هذا فان قوانين الفلسفة الاخلاقية التي هي لب كل عبادة لابد ان تكون واحدة في كل مكان .فحب الوالدين الرؤومين والبرّ بالعجزة المحتاجين ...الخ كلها مبادىء صحيحة في كل زمان ومكان .(فواجبات القلب واحدة في كل مكان على عتبات عرش الله ,ان كان له عرش ,وفي قرار الهوة السحيقة ,ان كانت هناك هوة سحيقة ).
وفيما هو مستغرق في هذه التأملات ظهر له جنيّ وحمله الى صحراء تكدست فيها أكوام من عظام ,وهو نفس الجنيّ الذي تجلى له مرارا ليعلمه ان الله يحاسب بطريقة غير طريقتنا,وان عمل الخير ,خير الف مرة من الجدل في معنى الخير .
وبين عظام الموتى رأى طرقا محفوفة بأشجار دائمة الخضرة ,وفي نهاية كل طريق وقف رجل مهيب الطلعة يتأمل عظام الانسانية الهالكة وحطامها في أسف عميق وويذرف الدمع السخين ,وبدأ الزائر يلقي أسئلته الكثيرة على الجنيّ ,ولكن الجنيّ أجابه : لن أجيبك على شيء حتى تذرف الدمع السخين .
وطاف به بين أكوام العظام قائلا:هذا دميم! ثلاثمئة ألف جاء في التورات انهم كانوا يرقصون امام معبودهم العجل او يضاجعون نساء مدين وهذا دميم!الآلاف المؤلفة من المسيحيين الذين فتك بعضهم ببعض بخلافات ميتافيزيقية ,وكان كومهم كبيرا يبلغ السماء ,ولذا قسم الى عدة أكوام .وهذا كوم اثني عشر مليونا من الأمريكيين (الهنود الحمر)الذين قتلوا في وطنهم لانهم لم يعرفوا المعمودية ,اما المسلمون فكوم ضحاياهم صغير لان من طلب منهم الأمان وعرض عليهم الجزية عفوا عنه.
وبعد ان اراه اكوام العظام طاف معه بأكوام اخرى,فاذا بها زكائب من الذهب والفضة وعلى كل منها أتكيت تقول :"اموال الزنادقة المقتولين في القرن الثامن عشر والسابع عشر والسادس عشر" او "ذهب الامريكيين وفضتهم" وهكذا دواليك .
فتعلم الزائر انه مامن حرب تشبّ باسم الدين الا وكان غرضها نهب أموال الغير.وبكى الزائر ....
ومشى الجنيّ بالزائر في الطرق ذات الاشجار دائمة الخضرة حتى بلغ الرجال الحكماء الذين جاهدوا طول حياتهم لينقذوا العالم من العنف واللصوصية .بلغهم واحدا بعد واحد. فرأى يوما بمبيليوس وسمعه يقول :"كان سلفي قاطع طريق وكنت احكم شعبا من قطاع الطرق ,فعلمتهم الفضيلة وعبادة الله ,وبعد موتي نسوا ماعلمتهم اكثر من مرة .ونهيتهم ان يضعوا الاصنام في المعابد لان الله الذي يمشي في الطبيعة بالحياة لايمكن تصويره .وفي عهدي لم يعرف الرومان الحروب ولا الفتن وديني قام على عمل الخير".فقبل الزائر يده .
ومضى الى الثاي فوجده فيساغورس فسمعه يقول :"ان فخذه لم يكن ابدا من ذهب كما اشاع الناس وانه لم يكن قط ديكا كما جرت الرواية فيه,ولكنه حكم اتباعه بالعدل وعلمهم ان العدل هو اندر فضيلة والزم شيء في الدنيا ,وهداهم الى ان يحاسبوا ضمائرهم مرتين كل يوم .ثم انتقل الزائر الى زردشت فوجده يجمع نيران السماء في بؤرة مرآة محدبة ,وسط قاعة بها مئة باب كل باب منها يؤدي الى الحكمة ,فتعاليم زاراديشت تسمى الابواب وعددها مئة ,وعلى الباب الرئيسي كتبت هذه العبارة:"ان خامرك الشك ولم تعرف ان كان عملك خيرا او شرا فأحجم عنه "وهكذا قطع الطريق على السفسطائيين .
وبلغ سقراط وعرفه بأنفه الافطس وسمعه يقول :"انا علمت تلامذتي ان القمر وعطارد والمريخ ليست آلهة ,وان الله واحد وهو سيد الطبيعة ,لهذا اتهمني الكاهن انيتوس لحزازات شخصية بافساد النشء ,واقنع بذلك مجلس الاثينيين فسلمني المجلس لسمام الجمهورية فاعطاني كأس السم ومت في السبعين بدلا من الحادية والسبعين .ومع ذلك فأنا لاافكر في الكاهن انيتوس الا وارثي له
واخيرا انتهى الزائر الى رجل وديع النفس لم يتجاوز الثلاثين بكثير .
وعجب لمرآه فقد كانت يداه وقدماه مثقوبة بالمسامير ينتثر منها الدم وكان جنبه طعينا بحربة ,وعُلم منه ان الكهنة هم اللذين فعلوا به كل ذلك,وسأله :"أأردت ان تعلم قومك دينا جديدا ؟" فأجابه :"مطلقا ! كل ماقلته لهم هو :احبّوا الله بكل قلوبكم وأحبّوا اخوتكم في الانسانية كما تحبون انفسكم ",وهو مبدأ قديم قدم العالم, ومع ذلك فقد نكّلوا به .وسأله الزائر عن اسمه فنهره الجنيّ ,وعلم الزائر ان هذا معلمه ايّا كان اسمه وشاع في نفسه الهدوء واستيقظ من الرؤيا .
طل الملوحي
21/7/2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق